في بيئةٍ ريفية قح .. لقمةُ العيش هي أسمى أماني المرء، وشربة الماء هي غايته ومراده، اعتادت الأسر أن تُسجل المولود باسم، وتناديه باسم شهرة، يحمل لقب العائلة كالبغل، أو الجحش، أو الحمار، أو الجمل، أو الهدهد، أو اسم بطل من أبطال الحكايات الشعبية، كالزناتي خليفة، أو أبو زيد الهلالي بطلي روايات عازف الربابة.
وقد يُنادى وليد بـ(عبد الجبار)، ومحمود بأبو الروس، وعلي بأبو دراع، وصلاح بأبو سنة .
ولم تسلم النساء من ذلك، فربما ينادون سمية بست الدار، وسميرة بست أبوها، وزينب بقوت القلوب، وسوسن بخضرة أو أنيسة، وصفاء بـ(سركس).
وعلى كلٍّ فخضرة وأنيسة وسركس وست الدار للبنت، أفضل من تسميتها بحنفي أو (البرومبولي)، ففي مثل هذه البيئة كل شيء جائز، فربما ينادون فتحي بـ( جمالات) !
الحاج رمضان الحفناوي، هو واحدٌ ممن كانوا يحملون اسما حقيقيا، واسم شهرة، ولكنْ من رحمة الله به، أن اختار له أبوه اسم شهرة أحسن من اسمه الحقيقي، فسجله رمضان، وناداه بمحمد، وكان له مع اسم الشهرة مواقف لا تُنسى.
منها أنه لبس زيّ المدرسة، وكان عبارة عن (مَرْيلة) لونها (بيج) تتكون من قميص طويل بأزرار من الخلف، له حزام على الوسط، تحته سروال واسع، يتساوى في ذلك الولد والبنت، إذ إن الزي موحد تماما كزي الحجيج.
نعود لرمضان أو محمد، فنقول إنه خرج من البيت يوما، يجره أبوه من كفه الصغير؛ ليلحقه بالمدرسة الابتدائي فيرحمه من العمل بصناعة أقفاص الخضر والفاكهة، التي يشيب من هول العمل بها الولدان، وتضع بسببها كلُّ ذاتِ حمل حملها، وعند باب المدرسة تركه أبوه، وأوصاه بأن ينتظر حتي ينادوا اسمه، ويعرف فصله الدراسي.
ظل محمد جالسا ينتظر الفرج، ولكن بلا جدوي، إذ نادى المنادي علي رمضان مرارا وتكرارا، ولم يرد الطفل، فهو لا يعرف إلا محمدا، أما رمضان فمجرد (حبر علي ورق )!
فرغَ الرجل من مناداة الأسماء بالكشف، ولم يجد الطفل من بينها اسم محمد، فعاد إلي بيته خائفا يترنح، يقول بصوت لا يكاد يبين : يبدو أنهم لم يسجلوا اسمي في الكشف، وفي البيت قصّ على أبيه ما جرى، فاستلقى أبوه على ظهره من شدة الضحك، وقال: بركة يا جامع، ودفعه إلي ورش صناعة الأقفاص، التي بُريت فيها يده، وطاف بسببها البلاد شرقا وغربا وراء لقمة عيش حلال، أطعم بها أولاده، فخرجوا (رِجّالة) بحق، فرضوا أنفسهم علي المجتمع بأخلاقهم وشهاداتهم، فأحدهما مهندسٌ بارع عمل في مصر، وبعض البلاد العربية، وحقق نجاحا يشهد به الجميع. فتَحيّةُ إجلال لمهندس أشرف رمضان الحفناوي ثمرة عمي محمد أو رمضان كما تقول شهادة الميلاد، وتحية لابنه الآخر معتز رمضان مشرف إنتاج بأحد المصانع الكبرى، وكلا الولدين غرسٌ طيب، رعاه الأبُ، فاستوى علي سوقه، وأضحى أشجارا ضاربة الجذور تسر الناظرين .
الحاج رمضان الحفناوي، وبرغم طيبة قلبه، إلا أنه ليست له مرارة علي الروتين المُمل، والوقوف في طوابير طويلة، وهو ما جعله في منطقة التجنيد، يفر مُدبرا ولم يُعقب بعدما طالبه أحد (الصولات) أو ( الشاويشية)بمنطقة التجنيد بأن يحضر (قيد عائلي) يُثبت أنه وحيد والديه، يحصل بموجبه علي المعافاة، فضرب كفا بكف، وقال للصول: تُكذبني وتصدق ورقة .. "أنا بقول لحضرتك إني وحيد "، وانصرف عنهم، ولم يروا بعدها وجهه، ولم يحصل علي المعافاة من التجنيد إلا بعدما شارف السبعين، وتاقت نفسه للحج والعمرة، فجاء بما يثبت موقفه وحصل علي المعافاة باعتبارها إحدي الأوراق المطلوبة للسفر، وزفّه ساعتها المهندس أشرف ومعتز بالطبل البلدي، والمزمار.
الحاج محمد أو رمضان ناصريُ الهوي، إذ يري - كمعظم جيله - أن ناصر زعيم الأمة، وهذا ما يُخالفه فيه أبناؤه، ورغم أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، إلا أنّ الأمر مع عمي رمضان مختلف، فكثيرا ما بات أولاده من غير عشاء، لأنّ لهم رأيا سياسيا آخر.
عمي رمضان كلثوميُّ المزاج، فهو من المُغرمين بالست، واعتادت أسرته إذا بدأت حفلتها، أن يصمتوا وكأن علي رؤوسهم الطير؛ ليستمتع بالطرب الأصيل، ولم يشاغبه في ذلك سوي حفيده محمد أشرف، الذي يتعارك معه دائما، إذ إن محمد كروي صميم، يأكل (يافوخ) من أمامه بالحديث عن (الكورة وسنينها).
صفاتٌ جميلة في الحاج رمضان الحفناوي، حفظه الله، ذلك الرجل البار بأمه، وأختيه عائشة وزينب، والذي أحسنَ تربية أولاده بمشاركة زوجة نبيلة، عاشت معه علي الحلوة والمُرّة، وكانت في غيابه بمائة رجل في رعايتها لبيتها وتربية أولادها.
رعاية الحاج رمضان لبيته لم تشغله عن واجب اجتماعي جبرا لخاطر الكبير والصغير.
تحية حبٍ لعمي محمد أو رمضان، وأخيرا أرفع القبعة لحفيديه محمد أشرف، وأحمد معتز، الحاصل علي الحزام البنفسجي في الكاراتيه، فهما دائما الشغب مع جدهما .. وحقا لا يفل الحديد إلا الحديد !