أتابع من وقت لآخر برنامج فرنسي يستعرض أغرب الجرائم المرتكبة خلال فترات زمنية معينة وفي قطر مكاني معين، وفي حلقة الأمس كانت الجريمة في غاية الغرابة وتدعو للتأمل خصوصاً إذا طابقناها على الواقع العملي المصري في ضوء أحكام القانون المدني، الجنائي والشريعة الإسلامية.
تركت هذه الجريمة أثراً في خاطري وظللت أتأمل، أفكر، وأعيد صياغة الأحداث بحثاً عن الحق والحقيقة، الأمر متعلق خصوصاً بجريمة شروع في قتل وأمر الميراث.
تتلخص وقائع القضية في الآتي:
قام (س) بشروع في قتل عمته (ص) وكان قاصداً حقا إزهاق روحها لكن خاب أثر فعلته لأمر لا دخل له فيه. لم تكن هذه السيدة كبيرة في السن لكن لها ظروف شخصية وصحية معينة تجعلها تحتاج إلى مساعدة يومية من عدد من الممرضات والعاملات اللاتي يقفون على رعايتها وراحتها. علما بأن ليس لها أولاد ولا زوج وكان س هو القريب الوحيد لها "ابن أخيها"، الأخ الذي سبقها إلى دار الحق قبل بضع سنوات.
وتجدر الإشارة في هذا المقام أنه ،عرفت المادة 45 من قانون العقوبات المصري الشروع بأنه «البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أو خاب أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها. ولا يعتبر شروعاً في الجناية أو الجنحة مجرد العزم على ارتكابها ولا الأعمال التحضيرية « . ونصت المادة 46 على أنه: «يعاقب على الشروع في الجناية بالعقوبات الآتية، إلا إذا نص قانوناً على خلاف ذلك: بالسجن المؤبد إذا كانت عقوبة الجناية الإعدام، وبالسجن المشدد إذا كانت عقوبة الجناية السجن المؤبد، وبالسجن المشدد مدة لا تزيد على نصف الحد الأقصى المقرر قانونا، أو السجن إذا كانت عقوبة الجناية السجن المشدد، وبالسجن مدة لا تزيد على نصف الحد الأقصى المقرر قانونا أو الحبس إذا كانت عقوبة الجناية السجن المشدد، وبالسجن مدة لا تزيد على نصف الحد الأقصى المقرر قانونا أو الحبس إذا كانت عقوبة الجناية السجن. «
أما س حين قصد إزهاق روح عمته ص، كان يعلم جيداً أنه وريثها الوحيد. وأنها قامت مقام والدته في تربيته وتعليمه والتكفل بكل مصاريفه حتى أصبح يعمل في قطاع الصناعة "رجل ملو هدومه" كما يقال بالعامية المصرية. لم يكن بحاجة إلى المال، لكنه قطع مسافة طريق من شرق البلد إلى غربها حوالي 14 ساعة، متعمداً إزهاق روحها. وحين وصل إلى منزلها في إحدى القرى الريفية الفرنسية، دخل بالمفتاح الذي أعطته له العمة من قبل، ثم جاء بقارورة زجاجية وأجهز عليها من الخلف حين كانت واقفة بالمطبخ. وتركها "تصفي دمها".
وتجدر الإشارة أنه وفقاً لقواعد القانون الجنائي، تتوافر أركان الجريمة كاملة، من ركنها المادي والمعنوي. وخصوصاً فيما يتعلق بالقصد الجنائي، توافرت تماماً بأركانه الثلاثة والمطلوبة لإثباته،: الركن الاول: “إتيان” الفعل او الامتناع عنه، الذي نتجت عنه الجريمة. الركن الثاني: “إرادة” ذلك الفعل او الامتناع عنه.
فكما قال التحقيق والمعاينة الأولية والطبيب الشرعي أنه لم يترك لها فرصة للنجاة أو للحياة. ترك المنزل وهو موقنا حق اليقين أنها أسلمت روحها لربها خلال ساعات.
لكن العناية الإلهية كانت فوق كل شيء، وقدر الله لها البقاء، لأن بالصدفة المحضة مرت من الخارج الممرضة التي تعتني بهذه العمة ذات الظروف الصحية الخاصة، ووجدت كافة نوافذ المنزل مغلقة على غير العادة. فحين دخلت المنزل وجدت العمة ملقاه على الأرض "وغرقانة في دمها".
جاءت الإسعاف وكذلك حضرت الشرطة وتم اتخاذ اللازم.
عاشت هذه العمة "قد ما عاشت" حين جاء يوم النطق بالحكم، طلب منها س أن تسامحه لكن نظرت العمة ص إلى المحكمة وقالت "أترك لكم الحكم العدل، الذي يأخذ لي حقي".
وكان حجته حين سئل، حجة أزهلت الجميع، أنه وريثها الوحيد، وأنها يجب أن تضحي من أجله ومن أجل أولاده وتترك لهم الأموال لكي يعيشوا للحياة. قسم الأرزاق وكتب الأقدار وكأن ليس هناك رب قادر على كل شيء وفوق كل شيء وعليم بكل شيء ! فبالنسبة له العمة "صفر على الشمال" ودورها انتهى في هذه الحياة.
حكم عليه بالسجن 20 سنة أشغال شقة. علما بأن فرنسا لا تعترف بعقوبة الإعدام.
المشكلة ليست في الحكم ولا في ملابسات القضية، المشكلة أنه قضى المدة وخرج وبعد خروجه بعدة سنوات توفت العمة. فالسؤال هنا "هل يرث هذا الشخص من عمته بعد أن شرع في قتلها" علما بأنه الوريث الشرعي لها؟
وفقاً للقاعدة الأصولية "القاتل لا يرث" فالقتل من أهم موانع الميراث. لكنه قضى مدته عقابا وعقوبة على فعلته في الشروع في قتلها.
وفقاً لقواعد الأخلاق،، الأمر قد يكون بالصعوبة بمكان أنه نجعل لهذا الشخص حقا في أموال عمته الذي غدر بها وخان أمانها وأمانتها.
ولكن قد يكون للقانون، القضاء وخصوصاً للشريعة الإسلامية رأي آخر.
فهذا الفكر ذكرني بالخلاف الأزلي القائم والدائر دائما وابدا بين قواعد القانون وقواعد الاخلاق Règles de droit et de la morale. وهذا الجدل موجود ليس فقط في مصر لكن أيضاً في دول مختلفة لأنه أمر متعلق بالفلسفة القانونية في حد ذاتها.
أدعو القراء الكرام، خصوصاً القضاة والشرعيين، أن يعطوا لنا الرؤية ويساعدونا في إيجاد الصواب لما قد تسببه هذه الحادثة من تخبط. فالحق ليس بالضرورة أن يكون القواعد المكتوبة أكثر ما هو روح هذه القواعد حين تأتي لحيز التطبيق.
مدرس القانون بكلية الحقوق جامعة عين شمس