ads
الأربعاء 22 يناير 2025
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

خير من العلم نفسه أن تتعلم كيف تستخرج العلم!

وأعني معرفة استخراج العلم واستنباطه وإدراك كيف فكر العلماء وكيف انتجوا العلم، فمعرفة كل ذلك خير من العلم المحصل بالحفظ بلا وعي أو هضم أو تفكير وتدبر أو عصف ذهني لأنه لا يخلق عقولا مبدعة، وأذهانا مبتكرة وإنما يصير العقول وعاء والصدور حافظة، وهذا يهدم ولا يبني ويصنع أجيالا قد تعمل ولكنها لا تبدع ولا تبتكر وأحيانا لا تميز بين الغث والسمين، أوبين الرخيص والثمين.

يوجد أجيالا قد تستقطب لأنها لا تميز بين الحق والباطل ، أو تعمل عقولها فيما تسمع وفيما يراد منها.

إن نهضة البلاد تقوم علي تعليم ناهض يعلم التفكير والاستنباط والإبداع ويزين ذلك بالأخلاق والتربية.

والقارئ بتدبر لما كتبه الخليل وسيبويه والجاحظ وعبد القاهر ومن هم في طبقتهم من العلماء الذين أسسوا العلوم أو الذين أسهموا في تأسيسها فوضعوا لبنات في صرحها ، القارئ لتلك الكتابات يجد بونا شاسعا واختلافا واضحا بينها وبين كتابات غيرهم ممن شرحوا تلك العلوم أو لخصوها ،وذلك الاختلاف من وجوه عدة : 

منها أنك - أيها القارئ - تستطيع وأنت تدرس تلك العلوم وتتأملها تدرك كيف أعمل هؤلاء العلماء عقولهم في المسائل التي كانوا يعالجونها ، وكيف كانوا يفكرون وهم يستنبطون ، ويستخرجون ، ويولدون معرفة من رحم ما بين أيديهم من علوم ، بل ويصنعون معرفة جديدة ، وليس أنفع وأنجع في باب العلم وتعليمه من أن نتعلم كيف نستخرج العلم ،وذلك بالوقوف علي كيفية استنباط العلماء العلم ؛لأن الاستنباط هو الهادي والقائد إلي صناعة المعرفة ،وإبداع العلم وإيجاده ، وخلق فكر جديد.

هذا الاستنباط هو الذي قاد كل جيل وهداه إلي أن يجدد علومه ويضيف معارف إلي معارف السابقين ، ويتوسع فيها ويبسطها ، ولن ينقاد لك الاستنباط الذي يقودك إلي آفاق رحبة وجديدة إلا إذا وقفت علي المسألة العلمية التي أنت بصدد دراستها واستوعبتها استيعابا كاملاً ودقيقا، وكنت معها كما كان الإمام عبد القاهر في إدارته لمسائله العلمية علي كل وجوهها ، والوقوف على ظاهرها وباطنها ،والتغلغل في مطوياتها وضمائرها ومضامينها .

ولعل رد الأستاذ محمود شاكر -رحمه الله تعالى -لما سأله شيخنا أبو موسي - وهذا ما سمعته أذني منه - عن عدم شرحه كلام الإمام عبد القاهر في كتابيه: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز بقوله:" كلام الشيخ لا يفهم إلا من فم الشيخ "، لعله بذلك أراد أن يبقي كلام الشيخ كما هو بنصه ليفهم القارئ منهج الإمام في استنباط المعرفة ،ويعلمه كيف كان يحاور الإمام الفكرة ويولد منها فكرة، ويدله- أيضا- علي عمق البحث عما هو غائر في ضمير الكلام حيث يلوح من بعيد ولا تستطيع العبارة أحيانا اقتناصه، أوتحيط به المعرفة ولا تؤدِّيه الصفة وهكذا.

إن الاستنباط هو سبيل العلماء الذين أحسنوا فهم العلوم ودققوا مسائلها وحققوها ومَحَّصوها فهو منهج صانعي المعارف ومنتجي العلوم .

إنه منهج عرفه علماؤنا مؤسسو العلوم قبل أن يتحدث عنه الغرب و الشرق ، بل هو منهج أفاد منه المتشدقون بالجديد.

ومن ثم أقول:إن أردنا أن نربي أجيالنا ونعِدَّهم لِغَدٍ فيه من الصعاب التي تراكمت لعوامل كثيرة، ونهيئهم لطريق فيه من الأشواك التي زرعها أعداء الأمة ، إن أردنا ذلك كان لزاما أن يكون تعليمنا قائما علي الاستنباط والابداع والابتكار وكيفية أن يستنتج المتعلم ويستجدَّ جديدا، ويصنع معرفة بكرا ، بعد أن يتعلم معلمه قبله .

وفي مقالات لاحقة -إن شاء الله -سأذكر أمثلة من كتب الأكارم أبين من خلالها كيف كان أولئك العلماء يصنعون المعارف ويستنبطون علوما من العلوم .

تم نسخ الرابط