ولما أجابه قال له: خذ السوط واضرب ابن الأكرمين.. ثم صاح عمر في وجه عمرو بن العاص.. أيا عمرو ! متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!"
حق المواطنة..!
(الرابعة والخمسون)
أُجزم أن معظمنا يعلم قصة القبطي الذى أتى المدينة مستصرخاً عدل عمر .
وأجزم أننا تأثرنا بها أكثر من كل الروايات التي رويت عن عمر وأنها تركت في نفوسنا أثراً يبقى بحسب مقدار الإدراك الذى استقبلنا به هذه الرواية ومدى استعابنا للمغزى العظيم الذى تنطق به .
تقول الرواية والمنقولة من أصدق الكتب التى تناولت سيرة عمر أن محمد بن عمرو بن العاص حاكم مصر قد ضرب مصرياً (قبطياً) بالسوط لأن هذا الأخير قد استبقه في سباق وهو يقول له: "خذها وأنا ابن الأكرمين" ثم قام عمرو بن العاص بحبس القبطي خوفاً من أن يشكو ابنه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب .
لكن الذى حدث أن القبطي استطاع الفرار من محبسه هذا ثم جاء إلى المدينة حيث مركز الحكم آنذاك .
هنا يوجد الخليفة العادل عمر بن الخطاب . جاء القبطي ليشكو له ابن حاكم مصر عمرو بن العاص .
واستمع الخليفة للمواطن المصري ثم دعا عمرو بن العاص وابنه إلى مجلس يحضره جمع كبير من الناس ثم نادى عمر:
أين القبطي؟
ولما أجابه قال له عمر: خذ هذا السوط واضرب ابن الأكرمين وعندما انتهى القبطي مما أمره عمر قال له اضرب رأس عمرو بن العاص!
فقال القبطى: يا أمير المؤمنين لم يضربني غير محمد بن عمرو بن العاص وقد ضربت من ضربني فقال له عمر: والله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطان أبيه والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه .
ثم صاح في عمرو بن العاص: أيا عمرو ! متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!
انتهت الرواية ولم يذكر أن القبطي ضرب رأس عمرو بن العاص لكن الذى ثبت أن هناك مواطناً لم يكن على دين الإسلام قطع مسافة طويلة شاقة بين مصر والمدينة لأنه كان يثق أن بها حاكم عادل سيطبق مبدأ المواطنة قبل أن يولد هذا المبدأ في الدساتير الحديثة بعد أربعة عشر قرناً من الزمان .
ليس المقصود أبداً من الرواية هو أن نعيد سردها ولا أن نتأثر بها ذاك التأثير العاطفي الذى سرعان ما يتبخر كما يحدث دائماً . ولا أن نرددها مجرد ترديد دون مضمون أو دون معناها العميق الذى ينطق بها .
مشكلتنا الكبرى في هذا الترديد الذى يقف عند مجرد التأثير اللحظى لكن أن نضع هذا التأثير موضع النهج الذى نبنى عليه فضيلة تستمر فلا . لم نتعود أن نفعل ذلك . لم نتعود أن نضع للعاطفة قانوناً كما نصنع مع المادة . أعلم أن العاطفة شىء والمادة شىء آخر ، ولكني أقصد أن نصيغ العاطفة في شكل منهج وقانون بما له من صفات أجلها العمومية والتجرد .
وكما قلت مراراً لست من هواة تكرار الروايات خاصة عند الحديث عن عمر وهو رجل قد كثرت الروايات عنه ولأنني كما قلت سابقاً وأكررها عند كل مناسبة لا أكتب سيرة عمر بل أكتب عن عمر برؤية معاصرة وهى رؤية تعتمد على التحليل والفارق بينهما كبير للغاية
علي الأقل فيما أعتقد .
تعالوا معي إذن نتحدث عن هذه الرواية برؤية معاصرة:
ما الذى نراه فيها وما هو المغزى منها ولماذا عمر خاصة تلتصق بسيرته مثل هذه الروايات التي تبرز عبقرية صاحبها ومنهجه غير التقليدى .
تقول الرواية في نقاط:
أن دولة اتسعت رقعتها من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب لكنها قد توصلت إلى فكرة الإدارة المركزية التي توصلت لها نظم علم الإدارة الحديثة . هذه الإدارة كان مقرها المدينة كعاصمة ربما يعود تاريخ تأسيسها إلى ما بعد الهجرة مباشرة حيث استقر الرسول وأصحابه من المهاجرين .
وأن مصر كانت ولاية ضمن هذه الدولة الكييرة وأنها كانت تتمتع باستقلال . فقد كان لها حاكم ومجلس حكم ولها أيضاً مواردها المالية وشئونها الاقتصادية وتركيبتها الإجتماعية وكذلك بالضرورة كان لها قضاؤها ، لكن كل ذلك كان يُباشر تحت إشراف الإدارة المركزية في المدينة وهو أمر لم تعرفه شكل الدولة إلا في العصر الحديث عن طريق اتحاد الولايات أو الحكم الفيدرالي .
وأن مواطناً في هذه الولاية (مصر ) قد وقع عليه ظلم من ابن حاكمها فلم يشأ أن يشكو هذا المواطن لرجل سوى الحاكم نفسه القائم فى المدينة ثم رحل من مصر إلى المدينة وكله إيمان بأن حقه لن يضيع عند إمام عادل مثل عمر .
لم يدر بخلد هذا المواطن لحظة واحدة بأن ثمة اضطهاد يمكن أن يقع به بسبب اختلاف عقيدته عن عقيدة المشكو فيه وهو ابن الحاكم بل واختلافها عن عقيدة أمير المؤمنين نفسه .
وأن أمير المؤمنين استمع إليه ثم استدعى حاكم مصر ونجله وأنه عقد محكمة علنية يراها القاصي والداني وأنه أنزل العقوبة بابن الحاكم أمام أعين الناس جميعاً ثم أراد أن ينزل العقاب أيضاً بالحاكم نفسه لولا عفو القبطي وكان الجزاء من جنس العمل .
وأن لا فارق بين مواطن وآخر على أساس الدين أو الطبقة أو المكانة الإجتماعية أو السلطان أو المال .
لا فارق بين رجل من عامة الناس وبين الحاكم نفسه ولا استغلال لنفوذ الآباء مهما كانوا هؤلاء .
وأن القبطي قد عاد لمصر مرفوع الرأس يحدث قومه بأن مع العدل تستقيم الحياة وأن المساواة تعلي قدر الحياة وأن الحاكم العادل ربما كان هو الحياة ذاتها .. !
ثم تقول الرواية أخيراً أيها السادة أن عمر بن الخطاب قد وضع دستوراً فريداً عندما صاح في وجه حاكم مصر: "متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"
ردودها في نفوسكم وتأملوا تلك العبارة التي تحمل في طياتها دستوراً بأكمله يقوم على احترام حقوق الإنسان ومبدأ المواطنة الذى يمثل مرحلة تقدم حديثة على هذا العالم بدأت بأول دستور للولايات المتحدة الأمريكية ثم إعلان الحقوق والمواطن الصادر عن الثورة الفرنسية إلى إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة . لكن عمر قد أدركها في حينه .
ربما كانت عبارة عمر الغاضبة في وجه حاكم مصر الذى أهين قبطي في ظل حكمه تجسد معنى من أعظم ما يمكن أن يأتي في وصف الحرية والكرامة الإنسانية إن لم يكن بالفعل أعظمها .. !
وللحديث بقية.