ads
الجمعة 20 ديسمبر 2024
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

في مُداخلة حاسمة له تعقيبا علي كلمات المُحاضرين في أحد احتفالات مجمع الخالدين باليوم العالمي للغة العربية، قال بصوت مُتهدج، خرج يُصارع عَبَرات عينيه: علينا ألا ننخدع ونُغالط أنفسنا مُرددين كذبا أن لغتنا العربية تعيش أوج عصور ازدهارها؛ لأننا بهذا الزعم نكون أشبه بنعامة دفنت وجهها في الرمال هربا من الافتراس، مُعتقدة أنها مادامت لا تري عدوها فإنه لا يراها، وإذا بها - بهذا التصرف السّاذج- تُقدم نفسها وعلي طبق من ذهب فريسة سهلة لعدوها. 

واستدل مدكور على صحة قوله بأنّ اللغة العربية حاليا تُعاني الأمرَّين؛ إذ أحاطَ بها خصومُها إحاطة السوار بالمعصم، فتركتْ أكثرَ من ميدان، ونزحتْ عن أكثر من مصر من الأمصار بعدما ظلت حقبا وسنوات مُتربعة علي عرش تلك البلاد باعتبارها اللغة الرسمية، فلاذت بالفرار من الأندلس وإيران وتركيا وجنوب السودان، وبعض أقاليم العراق والبقية ستأتي لا محالة إنْ لم ننتبه ونأخذ حِذرنا.
كانت كلمة د. عبد الحميد مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة أمام الحشد الهائل من الحضور، بمثابة الصدمة الكهربية التي يلجأ إليها الطبيب - رغم قسوتها - لإنعاش قلب المريض، وعودة صاحبه للحياة بعدما كان علي مشارف الرحيل !
فرغم أنّ اللغة العربية تُعتبر أعظم لغات العالم – ليس تحيزا – بل هي حقيقةٌ شهد بها مفكرو الغرب قبل العرب، والقاصي قبل الداني، وحقا الفضلُ ما شهدت به الأعداء، فها هو المؤرخ الفرنسي "أرنست رينان" يُقر بأنها أكملُ لغات العالم، وما عرفها التاريخُ إلا كاملة، إلا أنها تعاني كفرانا للعشير من أصحابها، فيهرعون إلي غيرها من لغات أعجمية في مُحادثاتهم ومُكاتباتهم كدليل علي التحضر والمدنية جهلا بقيمة ومكانة لغتهم العربية، التي ملأتْ الدنيا وشغلت الناس، فكانت لغة العلم والحضارة وقتما كان أبناؤها أعزة لم يرضَوا بغيرها بديلا .
إنّ سر العربية - يا سادة - يكمُن في أنها لغة القرآن، الذي وعد الله بحفظه،  وأكد ذلك بصيغة من أقوي صيغ التوكيد لاشتمالها على حرف التوكيد (إن)، الذي لا يحتمل الشك مُطلقا فقال : "إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون".


وبالتبعية فإن حفظ العربية كلغة مضمونٌ بحفظ القرآن، وليست هذه دعوة للتواكل، فالقضية ليست قضية بقاء؛ لأن البقاء مضمونٌ لاشك في ذلك، أمّا القضية فهي قضيةُ القوة والهيمنة والريادة، مثلما كان حالُها من قبل؛ لأن حياةً بلا عزة، هي حياة الموتُ أشرف منها !
وبالسؤال عن سبل تحقيق تلك الريادة والهيمنة للغتنا، تأتي الإجابةُ بأن ذلك يكون بمحافظة أبنائها عليها، والتخاطب بها في شتي المحافل والميادين، في الحضر والسفر في المحاضرة والدرس، في الجدّ واللعب، في البيع والشراء، في الاحتفالات والتشريفات.
إنّ لغتنا العربية تملك من مقومات الفخر والشرف، ما يجعل أبناءها مرفوعي الهامة راسخي الأقدام، وليس السبب في ذلك كثرة جذورها وموادها اللغوية، لأنها من هذه الزاوية أفقر من اللغة الإنجليزية علي سبيل المثال، إلا أنّ السبب أن العربية والإنجليزية في مسألة الجذور أشبه برجلين أحدهما له 10 أبناء، والآخر له 100 ابن، لكنَّ أبناء الأول من صلبه، أمّا أبناء الآخر لُقطاء، جمعهم من الشوارع حيث لا مأوى لهم.
فحريٌ بلغة نزل بها كلامُ ربنا، وضمنتْ البقاء والحفظ بحفظ القرآن أن يشمر أبناؤها عن سواعد الجد صونا لها من الضياع، وعدم استخدام غيرها تعبيرا عن المدنية والتحضر الذي هو في حقيقته الانهزامُ والانسحاق المقيت.
 

تم نسخ الرابط