لا توجد أمة إلا وتعرضت لخطر الانهيار لكن الأمة التي تنهض هي التي لم يصب الانهيار وعيها.
هذه حقيقة تاريخية ومن يريد أن يستدل على صدقها يقرأ سطوراً من التاريخ ليس أكثر وسيجد أن في وقت الخطر الحقيقي تنهض الأمم الصالحة بالوعي .
بعد انتهاء الحرب الثانية لم تجد ألمانيا غير سواعد النساء لكي ترفع ركام برلين . كان الرجال ما بين قتيل وقعيد وجريح ومفقود لكن الوعي كان حاضراً في لحظة حاسمة في تاريخ هذه الأمة ونهضت المدينة المنكوبة.
فعلتها اليابان أيضاً بعد تعرض مدينتيها لأكبر خيانة للعلم في التاريخ فقد تمت سرقة أبحاث انشتين وتم تصنيع القنبلة التي سمح ازينهاور بتجربتها فوق رؤوس أرواح بريئة في أسوأ تجربة علمية في التاريخ لكن اليابان نهضت بالوعي لا أكثر ولا أقل .
هنا فوق أرض مصر كان الوعي حاضراً عند العدوان الثلاثي الغاشم .
استطاع العدوان أن يدمر ثلاث محافظات لكنه لم يستطع أن يدمر إرادة الشعب .
ربما تكرر الأمر في ٦٧ ورغم قسوة ومرارة الهزيمة وفداحتها ورغم أن جيلاً بأكمله بدأ وكأنه قتل وهو على قيد الحياة من أثر الفاجعة التي أسقطتت أشياء كثيرة وضح زيفها وكنا نحسبها صادقة كان الوعي حاضراً رغم أي شىء وبقي حتى استطاع هذا الجيل أن ينهض ويصحح مسار الصراع بنصر أكتوبر .
ما دعاني إلى أن أبدأ هذا المقال بهذه المقدمة هو أن الهزيمة التي يمكن أن تشكل خطراً على الأمم ليس بشرط أن تكون عسكرية وأن الأزمات التي يمكن أن تتعرض لها الأمم ليس بشرط أن تكون اقتصادية بل الأخطر من هذا وذاك أن تكون الهزيمة هي غياب الوعي .
هنا يمكن معنى الهزيمة وخطورتها ذلك أن الذي يمكن أن يرفع ركام مبنى تصدع وانهار هو يد قوية يحركها وعى يعرف كيف ومتى يبث الروح في الجسد فيقوى ويشيد وقيم البناء ثانية .
ثمة حقيقة يجب أن ننتبه إليها وهي أنه لا خوف على شعب يتعرض لخطر طالما يمتلك وعيه لكن الخوف كله يتجسد عندما يغيب عنه هذا الوعى .
نتخيل إذن مجتمع أصبح يتحكم في وعيه مقاطع فيديو لا يبتغي أصحابها من ورائها إلا تحقيق ربح هو لا يختلف في جوهره عن الربح الذي يحققه تاجر المواد المخدرة .
في تلك الأخيرة تقوم المادة على تغييب الوعي وفي مقاطع الفيديو التي أقصدها لا يختلف الأمر أبداً فهي تقوم أيضاً على تغييب الوعي .
لا قراءة ولا بحث ولا مثابرة نحو تكوين رأي أو البحث عن الحقيقة.
كل هذا يمكن أن تراه وتسمعه في مقاطع فديو لا يستغرق المقطع فيها بضع دقائق ، وحتى لا يصيبك ملل فستجد المقطع صوت وصورة ومؤثرات صوتية أيضاً .
هذا مقطع ديني يذهب بك إلى السماء السابعة ليحكي لك عن تجربة دخولك الجنة بأدق التفاصيل مع أن مالك الملك يصفها بأنها ما لم عين ترى أو أذن تسمع أذن لكن المقطع يتجاوز ذلك ويذهب بك أبعد مما تتخيل العين أن تراه أو تتخيل الأذن أن تسمعه.
هذا غير الفتاوي العجيبة والمريبة التي تقدم لك في جرعات حتى تدمن تناولها ولا تستطيع أن تشفى منها .
مقاطع اقتصادية وتاريخية وسياسة واجتماعية وطبية وغيرها تقدم لك على تلك الشاكلة وأنت تستقبلها مضجعاً فوق اريكتك أو سريرك تتناول الجرعات في استسلام لأنك عاجز عن المقاومة. لقد أعجزت نفسك بنفسك.
تركت القراءة والتدقيق والبحث والتفكير.
اخترت اللاوعي وها أنت صرت دمية بين يدي من يتكسب على حساب لا وعيك وذلك عن طريق مشاركاتك الحمقاء لتلك الجرعات التي تسمى مقاطع فيديو .
كنت أحد المتحدثين منذ فترة قريبة في ندوة بعنوان: "مستقبل بلا إدمان" وكان أحد المتحدثين قبلي وهو طيبب واستشاري الأمراض النفسية مشهود له بالعلم الغزير أشار إلى نوع من الإدمان لا يقل خطورة عن إدمان المواد المخدرة وهو إدمان وسائل التواصل الاجتماعي من هذا النوع الذي تتحدث عنه .
هناك أيضاً تطبيقات على تلك الوسائل قد بدت خطورتها الكبيرة على عقلية أفراد هذا المجتمع وكيف أنها باتت واحدة من أكبر أسباب غياب الوعي بل تنحدر إلى أسباب تزايد الجريمة وبخاصة الجرائم الإلكترونية والإحصاءات في هذا المجال لا تكذب .
ليس هناك علم حقيقي يأتي عن طريق مقطع فيديو ..
ليس هناك معرفة حقيقية تأتي من قشور الأشياء وسطحيتها ..
ليس هناك حقيقة تأتي عن طريق مدعى يتكسب من وراء متابعتك الساذجة ..
وفي الجملة ليس هناك مجتمع ينهض وقد غيب وعيه بنفسه بهذه الطريقة التي نراها وتضربنا يوماً بعد يوم .. تقتلنا لأنها تُغيب وعينا .