عِشقي للسمك أيًا كان نوعُه أو طريقةُ تجهيزه: مشويا أو مقليا أو في صينية عشقٌ تليدٌ وشديدٌ معا.
ولا أبالغُ إن قلتُ إنّ عشقَ جميلٍ لبثينة أو قيسٍ لليلي أو حتي عشق عنتر لعبلة، يتضاءلُ أمام عشقي لذلك اللحم الطري.
ولي مع ذلك العشقِ مواقفُ تدعو للعجب أو للدهشة إن صح القول. حدثَ أن دخل أبي - طيب الله ثراه - وقد لاح الشفقُ في الأفق علينا يوما بـ( شَروةِ سمك)، وقال لأمي أسرعي بتجهيزه للعشاء، فلم تكن هناك ثلاجةٌ، أو ديب فريزر لحفظه لغداء اليوم التالي .
لم تُكذّب أمي خبرا، وأسرعت تُسابق الزمن في تجهيز السمك وإعداده، طاعة لأبي من جهة، ورغبة في إسعادي من جهة ثانية؛ لعلمها بمدى حُبي للسمك، وانتظاره من المَرةِ للأُخري، طالت هذه المرةُ أو قصُرت، حسب الظروف المالية لوالدي .
بعد تنظيف أمي للسمك، ورميها رأسه وأحشاءه للقطط، التي ربضت أمام باب الدار مُتنمرة ولها مواء، تنتظرُ نصيبها من تلك الوجبة الدسمة التي تُحبها هي الأخري، ولا أدري أهي أشدّ حبا لها مني أم العكس؟
أقول بعد أن فرغت أمي – رحمها الله – من عملية التنظيف، قامتْ بتقليب السمك في الدقيق، ثم شرعت في قليه بطاسة رفعتها علي (وابور الجاز)، ذي السيمفونية الموسيقية التي تأنسُ لها نفسُ كل جائع، وجلستُ بجوارها القرفصاء، أنتظرُ خروجَ (الطَرحةِ) الأولى؛ لأقصَ شريط التذوق، وأحكُمُ أأفلح أبي في تلك الشروة أم جانبه التوفيق؟
وقبل أن تصل القطعة الأولي بعد اكتمال طهيها إلي إناء الغَرف، كانت يدي أسبقَ إليها، فقمتُ بنزع السلسلة الشوكية عن شطريها، مثل جراحٍ أعملَ مِشرطه في جسد مريضه، وبفصلِ الجلد عن اللحم، بعدها شرعتُ في الأكل، وأنا أتمايلُ تمايل النشوان، أو من جلس يعُب من إبريقٍ مملوء بالسُلافة المُعتقة حتي أصابه السُكر .
علي مقربة مني جلست أختي الصغري (سلوي) ترمُقني بعينين متوسلتين، عساها أن تظفر بقطعة لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولكن هيهات لها أن تحظي بما أرادتْ، إذ كانت قطعةُ السمك بيدي أشبه بغزالة أحاطت بها قبضتا قسورة، وأطبقت علي عنقها أسنانُه.
بعدما أعيت أختي حيلُ إقناعي بمشاركتها لي فيما أطعم، أو حتي علي الأقل تحظي بنصف نصيبي جريا علي قاعدة توريث الأنثي، جَبذَتْ أمي لتُقنعني بمشاركتها إياي، أو تُعنفني علي (طفاثتي)، بالثاء، هكذا نطقتها أختي، فقد كانت (لدغة) في السين، فتنطقها ثاء، ولم أكن أحسنَ منها حالا، فقد كنتُ (ألدغ) في الراء، فأنطقها لاما، والفضلُ للقرآن في تقويم لساني، واستقامة بياني، والطفس كلمةٌ عامية مصرية، يُوصف بها من يجورُ علي حق أخيه.
لم تُصغِ أمي لتحريض أختي لها عليّ، خاصة أنني كنتُ (ديك البرابر)، ولا ترضي أمي بأي كلمة أو فعل يغضبني، ولكنها وعدتها، بأنّ القطعة القادمة بمجرد طهيها ستكونُ من نصيبها !
وبينما، وأنا آكل السمك، أتراقصُ وأتمايلُ تمايل النشوان، فيظنُني الرائي ممسوسا أو ملبوسا بعفريت من الجن الأحمر أو الأخضر، أو أي لون، إذ كنتُ شبيها بـ(زرزور) في فيلم(أنكل زيزو حبيبي) عندما منحه عمه مدبولي باكو (شكلكلاطة)، يقصد الشيكولاته، إذا بشوكةٍ من سلسلة العمود الفقري للسمكة (تنحشر) في زوري، وتكاد تخرج بسببها روحي من جسدي، ولم تُفلح في إخراجها طبطبةُ أمي علي ظهري، أو ضربات أختي الصغري بكفها الصغير علي صدري، ولا أدري للآن هل كانت ضرباتُ كفها محاولات طرد للشوكة، أم تأديب لي علي طفاستي ؟
سريعا أحضر والدي كيسا من القطن الطبي، وكوَّره كورا صغيرة؛ ليقذفها في فمي، الذي أضحي مرمي لا حارس له، حتي نزلت الشوكةُ بعدما بلغت الروحُ الحلقوم، وكان نصيبي من هذه الشَروة مجرد قطعة واحدة لم تكتمل، وكيس قطن، وفازت أختي بوجبة سمك شهية دون أن يكون لها غريمٌ، وحقا من صبر ظفر، ولو بعد حين، ولا عزاء للطفسين .
[email protected]