ربطتني بالمَلِك مُؤخرا صداقةٌ حميمة وطَّد أواصرها ما وجدتُه فيه من رجولة وشهامة وإخلاص، لم أجده في كثيرٍ ممن عرفتُ من الناس .
والمَلِك هو لقبٌ ورثَه أحمد فاروق أبو توت عن والده، وبه عُرف واشتهر بين الناس . وحتي يعرفَ القارئُ الفارقَ بين اللقب والكُنية، أقول إن الكُنية هي اسمٌ مسبوقٌ بأبٍ أو أم مثل أم حَنين، أو أبو بكر، أما اللقبُ فهو الصفةُ التي تسبقُ الاسم أو تلحقُه مثل كلمة الصدّيق في قولك أبو بكر الصديق، أو الصديقُ أبو بكر .
أعود فأقول بدأ تعرُفي بالملك عندما كنتُ أمارسُ رياضة الجري ضاحية القرية بجوار منزله الريفي المُقام علي رأس حقله. استضافني مرة حتي يجفَ عَرقي، ويسكنَ وجيبُ قلبي إثر ماراثون جريٍ دام نصفَ ساعة، وهو جهدٌ شاقٌ لشخص انقطعتْ صلتُه بالرياضة منذ ثلاثة عقود، وصار ينهجُ من مُجرد التفكير !
تكرر ترددي عليه، فجمعني مجلسُه بأناسٍ لم تكن لي بهم صلة؛ لاختلاف الثقافة والفكر، ولكني وجدت فيهم نماذجَ رائعة، فمنهم من امتاز بموهبة فذّة في استخدام لغة الإشارة، لدرجة أنه بفضلها يستطيعُ إقناعَ المُخاطَب، حتي وإن كان يكذب !
حولَ موقدِ الفحم جمعتنا ليالي الشتاء ننتظرُ الشاي الساخن، ويتباري الحضورُ في سردِ الحكايات الظريفة، والنكاتِ الطريفة، التي تُنسيهم عناء العمل بالفلاحة من حرثِ الأرض وريها، وجمعِ المحاصيل ودرسها، وجني الثمار ورشها، وغيرها من أعمال شاهدتُها بعيني خلال قُربي من تلك الشِلة، التي تعرفتُ عليها، ولم أعد أقوي علي الغياب عنها بعد حياة تقوقعٍ، وعُزلة عشتُها من قبل، وحقا المرءُ عدو ما يجهل، ومن ذاق عرف .
بين تلك الشلة، رأيتُ النُبلَ في أبهي صوره، والصدقَ في أسمي معانيه، والتعاونَ الذي شربوه حتي الثمالة بفضل المُزاملة أو (الزِمال)، الذي فرضته عليهم ثقافة الحقول، ومعناه أن يُعاونَ الأخُ أخاه في عمله اليوم، ويعاونُه أخوه في حقله غدا، وبهذا يتغلبون علي أعمالهم الشاقة !
في ذلك العالم، صادفتني مواقفُ مُضحكة منها أنه كان لأحد أفراد تلك الشلة، سأرمز له بالحرف (م) كلبا حراسة، منهما كلبةٌ( رومي ) لونُها أسودُ فاحم، ذات شعرٍ طويل ينسدل علي عنقها، وينسابُ علي ظهرها، فيكسبها جمالا واعتدادا .
ألفتْ تلك الكلبةُ ترددي علي المكان، فكانت تقابلُني بالترحاب؛ لأنني أحملُ إليها طعامها، ليس لسوادِ عيونها، أو لانسدالِ شعرها، بل طمعا في أن أظفرَ بعد حملها ووضعها بأحدِ جرائها لأُطلقه في حديقةِ المنزل، يفرحُ به صغيري .
وقبل موعد إخصابها، أكدتُ علي (م) ضرورة أن يجلبَ لها كلبًا ذا سُلالة معروفة، فرفض لتفضيله الكلابَ الخليط لشراستها .
أذعنتُ لرأيه، وزرتُه في موسمِ تزاوجها، فرأيتُها وقد التفتْ حولها كلابُ الحقول، يحدوها أملُ الفوز بهزة ذيل، أو رعشةِ عُنق، أو إرناءة لحظ، ومن بين تلك الكلاب كلبٌ أسود، نحل شعرُه، وخيم عليه الجرب، فحذرتُ (م)، من أن يمس كلبته، وإلا فجزاؤها القتل، فقال ضاحكا : إنها لم ينحط ذوقُها لهذا الحد، ودخلتُ معه لقضاء مهمة، كان شغلي الشاغل خلالها هو الخوف من أن يخلو ذلك الكلب الدميم بكلبتتا (المودرن)، وسريعا خرجت أتحسسُ خبرها، فوجدتها تقف خلف حمار، وتلتفُ بحبله، لتجنُب صولاتِ ذلك الكلب الرذيل، لكنها - للأسف - كانت تخدعُنا، وهو ما كشفتْ عنه الأيامُ لاحقا، إذ ظللنا ننتظرُ ظهورَ بطنها؛ لنعلم أحملتْ أم لا ؟
فلما طالت فترةُ الانتظار، دون أن تظهرَ بطنُها أيقنا أنها مُبرَأة، إلي أن جاءها المخاضُ بليل، وولدت ثمانيةَ جراء، وعندما رآني(م)بعد فترةِ غياب، شدّني من يدي لأرى بعيني رأسي المُصيبة، وما جلبته تلك الآثمةُ من عار ، إذ كانت الجراءُ كلها سوداء بلون الكلب الأجرب، فأيقنا أنها غافلتنا وخرجت إليه، أو تسللَ هو إليها بليل ووقع المحظور، ولم يكن التفافُها بالحبل إلا خداعا لنا، هنالك وقعت مني نظرةُ عتاب (لميم)، فإذا به وجهُه مسودٌ وهو كظيم يتواري مني من سُوءِ ما بُشر به.