وقف مشدودا يُكافح لتصل يدُه إلى قواطع (الاستنلس) بعربة المترو، ليمسك بها فتحميه من الوقوع كلما مادت رجلاه.
ولأنه قصيرُ القامة، أخذ يمُط جسمه، ويقف على أطراف أصابعه، وهيهات هيهات أن يصل!
رضى بالأمر الواقع واستقر مكانه، يتموج فى القطار، ويستند على من بجواره، كلما همَّ بالسقوط.
وقف بجانبه رجلٌ ضخم البنية، طويلُ القامة، أمسك بقاطع الاستنلس بسهولة ويسر، ووقف متباهيا بعضلاته المفتولة وبنيته الضخمة.
كانت يد المفتول، كلما أسرع القطار، تلتطم بوجه الشاب القصير، الذى ضاق ذرعا، فاضطر إلى لومه، فرد عليه ساخرا : (أعملك أيه أنت اللي قصير)!
نزلتْ هذه العبارة على أذني، وأذن ركاب العربة نزول الرعد، متسائلين: ألكونه قصيرا تدوسه الأقدام، ولا يرقب فيه القوى ذمة ولا رحما؟ أوصل الجورُ والظلم بيننا إلى هذا الحدّ؟
هل هذه هي سماحةُ الإسلام التى عاني النّبيّ لترسيخها، ودخل الناسُ بسببها فى دين الله أفواجا؟
والسؤال ما هذه القسوة التى طرأت على مجتمعنا، فأصبح الأخُ يُعادى أخاه، والجارُ يُقاضى جاره، صار المرءُ لا يأمن على ماله ونفسه وولده وأهله، أضحى زماننا مُغايرا زمنَ السابقين!
كان الناس قديما فى رباط ومودة .. الجارُ يصون بيت جاره، يحفظ أهله وماله وعرضه. القوى يحنو على الضعيف، يرعى شئونه ويُلبى مطالبه. المجتمع كلُّه يكفل الفقير، ويسُدّ حاجته. كان الناس كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائرُ الأعضاء بالحمى والسهر، فأنزل الله عليهم بركة فى الرزق، الذى كان برغم قلته يكفى ويزيد، وبركة فى الأهل والولد.
كانت هناك ـ بفعل تلك السماحة التى عمّت المجتمع بأسره ـ راحةٌ فى القلب وطمأنينة فى الفؤاد.
أما فى زماننا هذا، سقطت قيمٌ كثيرة، وحلّت محلها سلوكيات شاذة وغريبة عن مجتمعنا، فشاع الظلمُ والجور والطغيان.
حلت القسوةُ محل العطف، الشدّةُ محل اللّين، الغضبُ محل الحلم، الكذبُ محل الصدق، انتشر ترويعُ الآمنين، فشت روحُ (الاستسهال والاستهبال والفهلوة والشطارة)، التى صار معناها أن تضحك على أخيك، وتُسلبه حقه.
انتشرت البلطجة، وقطعُ الطرق، والنصب والاحتيال، فماذا ننتظر من ربنا الموصوف بالعدل؟
هل ننتظر سعادة ورخاء؟!
كلا والله، إذ جاء الجزاءُ من جنس العمل، فألفينا هذا يُعانى شظف العيش، وذاك يشكو نشوز زوجته، وثالثا يبكى عقوق أولاده، ورابعا يشكو جورا وظلما، وخامسا يُقاسى غلاء ومرضا، كلّ هذا بما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير.
أريد أنْ أقول إنّ صلاحَ المجتمع، وعدل الحاكم ورغد العيش، مُحالٌ أن يتحقق إلا بصلاح أنفسنا، وتمسكنا بروح الإسلام السمحة، التى فتحت البلاد، وأذعنت لها قلوبُ العباد، تلك الروح التى بسيادتها، لن تجد على الأرض أثرا لظلم أو صورة لجور، لن تجد قطعا للطرق وسرقة للبيوت، لن تجد اعتداء على النساء، وهتكا للأعراض، لن تجد كذا وكذا من أمراضنا العضال، التي نلطم بسببها الخدود، وصدق ربنا القائل: ( ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ).. فاعقلوا يرحمكم الله.
[email protected]