ads
الثلاثاء 11 فبراير 2025
-
رئيس التحرير
محمد الطوخي

كم أحسد دائمًا أولئك الذين تساعدهم مِهنهم على الكتابة، وتمدهم برصيد وافر من الأفكار، في الوقت الذي نحاول أن نستدعيها ونتوسل إليها فلا تعيرنا اهتماما.. و مؤلفة هذا الكتاب من هذا النوع التي تأتي الأفكار على عتبة بابها دون عناء، وليس معنى هذا أن الابداع خصيمها وأنه بفضل غيرها لا بفضلها، أبدًا فقد رزقت صاحبة هذا القلم بيانًا وحسن تعبير، يجعل من الشائكات، سلسالا رقراقًا من العذوبة المنسدلة إلى معين الذوق. 
عجبًا أهي تقدم أدبًا أم طبًا؟ 
تقدم قصص تشويقية مأسوية، أم استشارات نفسية وتوصيات تربوية، ام مآس ومحن إنسانية؟
بين كل فقرة وأختها تقدم ومضات بيانية يمكن لنا بكل سهولة أن نجعل منها حكمًا محفوظة تضيء حياتنا نتمثلها في أيامنا، نستفيد منها ونفيد بها من حولنا.
وقبل هذا أحب القول: إن هذه الكاتبة الأديبة تلتقي معي من حيث لا تدري ولا تعلم، في ذلك المسار المباين او الاتجاه المعاكس، لنفس الفكرة التي تحوم حول دور الأم في الحياة، وأثرها في التربية، فهي حينما كتبت عن الأم السيئة، كنت أنا قد كتبت قديما عن الأم العظيمة وكتابي تحت عنوان 
(كوني اما عظيمة) فكان نفس النهج ونفس المعنى ونفس الفكرة، وإن كانت هي قد أرادت أو مالت إلى الجناح الأيسر، تعكس صورة أثرها السلبي إن كانت سلبية، وأردت أنا من جهة أخرى جناحها الأيمن وبيان حظها الإيجابي حينما تكون أما حاضنة مربية. 
فحديثنا إذن واحد وإن اختلفت مساراته، لكنه ينبع بقوة من ذات الفكرة الرهيبة في حياة الإنسان.. إنها فكرة الأم. 
فيا سعده من رزق بأم تحنو عليه، ويا شؤمه من دفعه القدر تحت أم جاحدة قاسية، مُرة الإحساس جامدة المشاعر.. ومثل هذه الأم الصلبة الجامدة، هي أم تتنكر للطبيعة والفطرة التي حكمت على الأم أن تكون موئل الدفء والحنان. 
وأثر الأم في حياة الإنسان لا يمكن أن ينسى أو ينمحي، فهو قوي في النفس وغائر في الذات، يشكل طبع هذا الإنسان وصورته في الحياة. 
وحينما كنت اقرأ هذه الحالات في هذا الكتاب للدكتورة منى قابل فقد يممت شطري نحو كتاب عن أبي حيان التوحيدي ذلك الرجل العظيم في حياتنا الأدبية والفلسفية والفكرية، وهكذا أنا دومًا في قراءاتي متنوع لا أصبر على كتاب واحد، وإنما أحاول الترويح عن النفس بتصفح غيره، وهذا لا يعني أن الكتاب الذي أمسكه كان رديئا غير جيد، ولكن ذوقي يحب قطف الأزهار المتنوعة بين حين وآخر، كذلك الذي يمل طعامًا واحدا مع لذة طعمه وطيب لقمته، وكان قدري ساعتها أن قابلتني نصوص لأبي حيان التوحيدي من حديث الذكريات عن أمه.. الأم في حياته والتي رغم موتها في طفولته إلا أن تلك الفترة التي عاشها في كنفها لا يمكن أن يذهل عنها او ينساها أبدا، فهو يقول:  إني لا أكاد أنساها ولا أذهل عن شانها وشأني معها، هذا على بعد عهدي بها وامتداد الزمان بيني وبينها، لأنها صارت الى جوار الله وأنا غلام ثم يقول: "الأم شأنها في الحس أعظم وتدبيرها في المباشرة أظهر، وشفقتها بحسب ضعف قوتها أكثر، الاب هو الفاعل الحسي أيضا، ولكن لا مباشرة له متصلة ولا ولاية له متمادية، وإنما هو أول فقط، والام حاملة واضعة، وفاطمة ومرضعة، حاضنة ومربية، فالكلفة عليها أغلظ وحسها للولد آنف وهو بها أشغف"
وحينما قرأت تلك الصور المتنوعة من هذا الكتاب التربوي الرائق، للدكتورة منى قابل تبين إلي أننا ونحن أطفال نشبه إلى حد بعيد تلك القارورة الرقيقة التي يمكن لها أن تنكسر ولو لمجرد موجة هواء يسير، أي شيء مهما كان هينا دقيقا يمكن أن يؤثر فينا ويجرحنا، وليته يكون جرحًا ويلتئم، لكان الأمر هينا بسيطا، ولكنه للأسف جرح لا يندمل ويترك أثره في النفس والطباع التي تدلل على أثره وعلاماته، دون أن يخترع له شيء من عمليات التجميل تزيل ندوبه وتجعداته، ليظل مع الإنسان منذ أن كان طفلا إلى أن يموت.
انظر مثلا إلى قولها على لسان حال بطل هذه الحالة:
"لن أنسى أنها كانت تفضّل علي ابن السيدة التي تحيك لها ملابسها.. تعفيه من العقاب وغالباً تعطيني نصيبه منه، فضلا عن المكافأة بطبيعة الحال، المكافأة التي حرمت من كل أشكالها، لم أطمع في أن تكون أكثر من المعاملة الطيبة التي استبدلتها أمي بمهارة فائقة بالتوبيخ حينا، وبالضرب حينا، وبعقد المقارنات الظالمة بيني وبين أقراني في أحيان كثيرة.
وأسوأ المقارنات والتي كنت أشعر بعد سماعها بغبائي وضعف مستواي الدراسي؛ كانت مع المادة التي قامت بصفع ابني بسببها الآن؛ اللغة الإنجليزية".
وعلى لسان بطلة أخرى تقول: "لا أطمع أن ينصفني العالم، فلم يك أبدًا منصفا، ما الذي يريدونه من امرأة كان والدها يتخاصم مع والدتها لأشهر عدة؟ كلما أنجبت فتاة، كم مرة وأنا الكبرى ألاحظ معاناة أمي في وقت تنزف فيه روحها، لا شك أن نفاس الروح أشد وطأة من نفاس الجسد.. شعرت مراتٍ أني محض مرض جلدي، لم يحتضني يوما أو يقبلني رغم تفوقي الدراسي، لم يكن سعيدا بي أبدا، أو بواحدة من أخواتي"
وتقول ثالثة: "وأخرج متلصصة، أستمع إلى همساته الموجعة، كان أبي يتعامل مع أخطائنا وكأنها جرائم، وأبسط العقوبات كانت الضرب. كنا نُجرد من ملابسنا، نُرغم على الوقوف تحت نافذة مفتوحة، في برد يناير القارس، ننتظر أن تمر أمي لتغلق الباب، وكأن ذلك هو الأمل الوحيد في الحصول على بعض الدفء"

تضرب هذه المجموعة المأساوية بدورها في دروب كثيرة من رياح الألام النفسية لضحايا الأم السيئة مع كل قصة منها أو حالة منها تستبشع مرارة هذا الألم وكيف حول الإنسان إلى شيء غريب عن نفسه وعن المجتمع وعن الناس، بل عن الفطرة الإنسانية التي خلقنا الله عليها، وكيف يجافيها البعض ويحاربها كما يحارب طواحين الهواء، وكيف تقلب هذه المجافاة حياة الإنسان رأسا على عقب، ولكني ما كنت أتخيل مثلا أن يقلب هذا الحال العيي جنس الإنسان فيحول الرجل إلى أنثى أو المرأة إلى رجل، في قصة فتاة كان والدها يغضب من أمها حينما تلد أنثى فخرجت الفتاة تتقمص دور الرجل وصورته وطبعه حتى ترضي ذلك الوالد الفظ الذي لم يحتضنها يوما من الأيام حتى أشعرها أنها كمرض جلدي يحذر الاقتراب من صاحبته.. ولكن المصيبة ليست في هذا الأب بقدر ما كانت في الأم الضعيفة السلبية المقهورة الذي غاب دورها فلم تدافع يوما عن بناتها بل شجعتهن على فعل كل ما يرضي هذا الوالد المتخلف، فلم تغسل يدها ولو مرة من دماء بناتها كما عبرت الكاتبة، واستمرت في إذلال نفسها ومحو هوية بناتها الحقيقية ، فلم تحدثهم مرة عن الأنثى وتطورها الطبيعي، فما أغباها من أم، وما أتعس بناتها بها. 
احتشدت هذه المجموعة فيما بين السطور وفي كل حكاية من حكاويها إلى كثير من الأخطاء التربوية والمعايب السلوكية التي تسبب كوارث نفسية وفواجع مجتمعية، وتخلق إنسانا شاذا أو مضطربا او عدوانيا أو ضعيفا أو مهترئا أو مهزوزا. 
هل يمكن لي هنا أن أقول إن مثل هذا الكتاب، حق على كل أم أن تقرأه وتتعلم منه وتدرك ذلك الخطر الكبير الذي تقف عليه دون أن تعلم، بل لماذا لا يكون حقا على كل فتاة أن تقرأه وتتعلم منه لتستعد بالقادم المهول الذي لا تبني به أسرة أو تهدمها، وإنما تبني أو تهدم به مجتمعا بأكمله. 
حتى مجرد كلمات لا تحمل هجوما او تقريعا أو ظلما للطفل، وإنما تحكي كمجرد حكايات عابرة يكون لها تأثيرها القاهر على نفسه وتشكيل وعيه ففي قصة  وسواس الياسمين تقول الكاتبة: "وأخرج متلصصة، أستمع إلى همساته الموجعة. كان أبي يتعامل مع أخطائنا وكأنها جرائم، وأبسط العقوبات كانت الضرب. كنا تجرد من ملابسنا، نُرغم على الوقوف تحت نافذة مفتوحة، في برد يناير القارس، ننتظر أن تمر أمي لتغلق الباب، وكأن ذلك هو الأمل الوحيد في الحصول على بعض الدفء"
أرى أن هذا الكتاب عالم فسيح كبير يستحق أن نقف أمامه ونعطيه اهتماما كبيرًا، لأنه حكاياته تنال من حياتنا وتتعلق بمصيرها من السعادة والشقاء، وكل قصة منه يمكن أن نقتبس منها معلمًا نوجه به الأسر والمربين لنرسم لهم الطريق الأمثل لصناعة جيل سوي مستقيم.  
بقي أن أشير إلى أن هذه المجموعة تتسم في رأيي بما يلي: 
1- الأسلوب الأدبي المريح والمشوق الهادئ الذي يعقد مع قلب القارئ لونا من الصداقة والألفة. 
2- القدرة على التمثيل والتشبيه واستخدام العديد من صور البيان الرائق
3- هذا الكاتبة صاحبة أسلوب ناضح يبلغ حد الحرفية في منطوقة إذ لا توجد أي صدمات لفظية في المفردات والجمل، فهناك تناغم قوي وموسيقي بين لبنات السطور. 
4- الأخطاء اللغوية تكاد تكون منعدمة في هذه المجموعة إذ تمت مراجعتها مراجعة دقيقة وهذا من عناية الكاتبة واحترامها لعملها. 
5- في بعض القصص الموجودة بالمجموعة تسهب الكاتبة أحيانا في السرد، ولو انها اختصرت في بعض فقراتها لكان أمثل من وجهة نظري، لكنني أعرف أن الكاتبة تريد أن تبسط سطورها لتعرف القراء بدقة على أبعاد الحالة. 
6- الاسم المختار للكتاب غير تقليدي أو غير متوقع لكتاب في مثل موضوعه وليس معنى هذا أنه غير معبر، بل على العكس تماما هو قمة في التعبير ولكنه جاء بطريقة غير متوقعة ونظم مختلف. 
7- الكاتبة لم يغلب عليها تخصصًا كطبيبة أو إخصائية نفسية، كان يمكن لها أن تقلب الحال مع كل قصة إلى كثير من التحليل العلمي والنفسي لكنها حافظت على عناصر الدهشة والإثارة التي يحققها المسار الأدبي.
8- هذا الكتاب ذو مشارب متنوعة متعددة، إذ يمكن لك أن تجعل منه مجموعة قصصية أدبية، أو كتابا تربويًا أو كتابا عن دور الأم والأمومة في الحياة بل إن شئته كتابا في البؤس والحزن والشقاء فما فيه كفيل أن يحقق لك ذلك. 
9- ما فعلته الكاتبة يجعلنا ننتظر جزءا ثانيا أو حديثا آخر عن أبي السيء، لتتم به تلك المنظومة التربوية الهادفة.
د. منى قابل 
د. منى قابل

تم نسخ الرابط